-
سير ذاتية
-
من الآن
-
عربي عربي
-
80 EGP
-
مكتبات وسط البلد
Mustafa Abd Rabu
[تتألف روحي من آلاف الصور التي لا أستطيع محوها. أتذكر كل شيء بوضوح، من ذبابة على جدار في بلجراد، إلى شارع في سان فرانسيسكو ذات صباح مبكر. أنا فيلم قديم باهت مهزوز الصورة وصامت في الغالب]
الجزء اللي فات كان تعريف الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك لنفسه. سيميك قضى فترة طويلة من طفولته تحت القصف في بلجراد، أثناء الحرب العالمية الثانية. ورغم قساوة المشاهد والأحداث إلا أنها مكتوبة بدون مبالغات وبصدق وبراءة. ومن خلال الكتاب هنقدر نشوف الحرب بعيون طفل.
عاش سيميك مع أمه وأخوه الصغير في بلجراد بعد هروب أبوه إلى إيطاليا وبعدين لأمريكا. وتحت القصف قضى سيميك فترة طويلة من طفولته. عاش تجارب سيئة جدًا من جوع وحرمان والنوم في البرد وانقطاع الماء. سيميك شاف القهر والظلم بعيون طفل. شاف أمه بتتعرض للضرب والتعذيب من الجنود لأنها حاولت تهرب بأولادها بعيدًا عن الحرب.
وبعد محاولات بتنجح الأسرة أنها تهرب إلى باريس. وبيعبر سيميك عن كرهه الشديد لباريس وللغة الفرنسية ولأيام المدرسة. وهناك اكتشف تشارلز سحر السينما، وقدر يهرب من الواقع السيء إلى الأفلام الصامتة. وبعد عام مؤلم في باريس -تشارلز كان بينام على الأرض طول السنة- وصل مع أمه وأخوه إلى أمريكا عام 1954 والتقى بأبوه.
عجبته الحياة في أمريكا وبقى صديق لأبوه. يسهروا سوا في بارات سان فرانسيسكو ويتناقشوا في الأدب والفلسفة. وخلال السهرات دي أكتشف سيميك موسيقى الجاز. ودي كانت نقطة تحول في حياته!
وبعد فترة بيقرر تشارلز إنه يعتمد على نفسه، ساب البيت وعاش لوحده في غرفة ضيقة. واشتغل مصحح إعلانات واكتشف نفسه كشاعر. وبعد فترة بقى واحد من أهم شعراء أمريكا المعاصرين. والغريب أن سيميك مش قايل أي شيء عن شهرته كشاعر وعن حصوله على درجة الدكتوراه في الأدب وعمله في الجامعة. لكنه بيخصص الجزء الأخير من الكتاب -بعد سلسلة طويلة من الحكايات البديعة- لتأملاته في الشعر والفلسفة والدين والحياة. كأن الجزء الأخير تتويج لمسيرة حياته الصعبة، وللكتاب الرائع.
ومن أجمل حكايات الكتاب –-أقساها في نفس الوقت- لقاءه مع شاعر أمريكي بعد سنين من انتهاء الحرب.
[ذهبت إلى تجمّع أدبي في سان فرانسيسكو حيث قابلت بالصدفة الشاعر ريتشارد هيوجو في مطعم. تحدّثنا، سألني كيف قضيت الصيف، أخبرته أنني عدت للتو من بلجراد. قال: “آي نعم، بإمكاني أن أرى هذه المدينة جيدًا.
قالها دون أن يعرف خلفيتي، انطلق يرسم على مفرش المائدة، بقطع الخبز وبقع النبيذ، موقع المبنى الرئيسي لمكتب البريد، الكباري على نهريّ الدانوب والسافا، وبعض المعالم الأخرى الهامة. دون أية فكرة عن معنى ذلك، مفترضًا طوال الوقت أنه زار مرة المدينة كسائح، سألته كم من الوقت قضى في بلجراد.
أجابني: “لم أزرها أبدًا، أنا فقط قصفتها عدة مرات”. بذهول من المفاجأة، اندفعت قائلًا لقد كنتُ هناك وقتها وأنني أنا من كان يقوم بقصفه!
أكدتُ لهيوجو أن ذلك بالضبط ما كنت سأفعله لو كنتُ مكانه، لكنه استمر يطلب الغفران ويبرر موقفه… بَدونا كلاعبين صغيرين مرتبكين في أحداث أكبر من سيطرتنا. هو على الأقل اعترف بمسؤوليته عما فعل، هذا ما لا نسمع به في حروب اليوم الآمنة حيث الموضة هي تحميل مسئولية الأخطاء على التكنولوجيا. هيوجو كان رجلًا يتمتع بالنزاهة، واحدًا من أفضل الشعراء في جيله، وقد يبدو غريبًا أنني لم يخطر ببالي أن ألومه على ما قام به]
من الجزء اللي فات نقدر نفهم عمق رؤية سيميك للناس وللأحداث. لكن في نفس الوقت هنعرف إن ذكريات الحرب جعلت منه عاشق للحياة، ومتمرد على كل القيود.
[كان أكثر المشاغبين الذي رأيتهم في حياتي شرًا. يسمونه سِنْجه لأنه كان يشبه مجرمي سجن سنج سنج الأمريكي]
المقطع السابق دليل على براعة وذكاء المترجمة إيمان مرسال. لأنها قدرت تختار اسم مألوف لمجرم بالنسبة للقارئ العربي. وفي نفس الوقت ربطت بشكل منطقي بين اسم المجرد وبين سجن سنج سنج. المترجمة نجحت فعلًا تخلي القارئ مايحسش بالغربة. كأن الكتاب أصلًا مكتوب بالعربي.